*
أحد الأشخاص يروي قصة حقيقية جرت أحداثها في مدينة بريده قبل مايربو عن ٩٠ سنة ..
أدعكم مع أحداث هذه القصة :
ترملت الزوجة وتيتم طفلها فكانت في بيت والدها صابرة على فقدان زوجها باكية على حال طفلها لأن والدها فقير جداً حتى لايكاد يجد قوت يومه فضلاً أن يجده مع ابنته وطفلها ذو الربيع الثالث فكان حمله ثقيلاً جداً وبالرغم من هذا كله لا يظهر لابنته شيئاً بل يحمد الله ويستعينه في رزقه
وبعد مضي سنة على ترملها رغب الأب في تزويج ابنته ورغبت هي في التخفيف عنه لكن ولدها اليتيم أصبح حجر عثرة في زواجها فمن رغب الزواج بها تراجع من أجل ولدها فهو لايريد الإنفاق عليه فمكثت الأرملة تنتظر وتنتظر دون جدوى فالأزواج يحجمون من أجل ولدها فحين طالت فترة الانتظار وتأخر الزواج اتفقت مع والدها أن تخفي أمر ولدها عن خاطب لايعرفهم جيداً وجاء من أطراف بريده زاعمين له أنها ترملت دون أن تنجب فتزوجت منه سريعاً وكان الرجل يمتهن حرفة ( جمّال ) وهو من يخرج في الصباح الباكر يقود جمله يبحث عن مستأجر ينقل متاعه وجمله مقابل بضع دراهم قليلة .. وكانت فرحتها بالزوج مشوبة بحرقة أمومتها فهي اقتربت من زوجها وابتعدت عن طفلها تم زواجها وانتقلت الى بيتها الجديد وكانت فرحتها كبيرة حين استأجر زوجها بيتاً لا يبتعد كثيراً عن بيت والدها فكانت تنتظر لحظة خروجه لطلب الرزق لتخرج بعده بقليل إلى بيت والدها تحتضن طفلها وتقبله وتواسي شعره وتنظفه وقد تضع في فمه شيئاً ادخرته ثم تعود مسرعةً قبل عودة زوجها
كانت تفعل هذا مرتين أو ثلاث في الاسبوع .. وحين تكرر منها هذا الخروج فطن لها أحد جيرانها شاهدها تخرج خائفة تخب الأرض في مشيتها فوشى بها عند زوجها مخبراً إياه أن زوجته تخرج في غيبته وتعود قبل أوبته في صورةٍ مريبة لا يرتضيها من زوجة جاره ..
قلق الزوج من هذا الحديث وأهمه كلام جاره ولكن أضمره في نفسه ولم يكاشف زوجته بل أعد خطة مراقبة ليشاهد تفاصيل مايحدث وأين تذهب
في صباح اليوم التالي ودع زوجته فودعته داعيةً له بالتوفيق والرزق ابتعد قليلاً ثم انزوى جانباً يترقب خروجها فذهب وجه النهار حتى حان ساعة عودته ولم تخرج ، عندها نهض من مكانه ودخل بيته كأنه أتى للتو من عمله وفي صبيحة الغد أعاد الزوج مافعله بالأمس و لكن هذه المرة لم يلبث غير قليل حتى شاهدها تفتح الباب وتخرج إلى الشارع وهي متلفعة بخمارها الكثيف تسارع الخطى إلى حيث لا يعلم
تابعها وهي تخب الأرض في مشيتها حتى بلغت بيت أهلها وكان طفلها عند الباب فعرفها وأقبل إليها وهو يكاد يسقط في مشيته فأكبت إليه وضمته إلى صدرها وقبلته في رأسه وبين عينيه وفي كل موضع ثم دخلت به إلى بيت أهلها ومكثت بضع دقائق ثم خرجت لا تلوي على شيء مسرعة إلى بيتها .
كان زوجها مندهشاً بما رآه ولم يكد بحاجة لأن يخبره أحد أن هذا الطفل هو طفلها وفلذة كبدها فخالفها إلى بيت والدها بعد أن ابتعدت وأخذ يطرق الباب برفق وهو يصيح بالسلام ، حتى خرج والد زوجته وهو يرحب ويبارك هذه الزيارة ولكن بشكٍ وتوجس ظهر على وجهه
وحين استقر الزوج في جلسته نظر في عيني عمه ويسأله دون تقديم ( فلانه .. عندها ولد ؟ ) فارتبك الأب وظهرت على وجهه آثار الهلع والخوف على ابنته فعاجله الزوج قبل أن يتحدث ( أصدقني .. فلانه عندها ولد من زوجها الأول ؟ ) فأسقط في يدي الأب ولم يجد مناصاً من قول الحقيقة فأجابه ( إيه .. عندها ولد لن يبلشك ولن يدخل بيتك وأنا ..) فقاطعه الزوج : أحضره لي
نهض الأب متثاقلاً مهموماً فزعاً وهو يتمتم بكلمات غير مسموعة ولبث قليلاً ثم دخل وهو يمسك بأنامل الطفل ، وما أن شاهده الزوج حتى تلقفه وهو يبتسم وقبّله بين عينيه وعلى رأسه وأجلسه في حضنه
ثم نظر في عيني عمه وهو يقول ( هذا حسبة ولدي ولو علمتونِ لرضيت فيه) فأكب عليه الأب وقبله على رأسه ونهض الزوج وهو ممسك بأنامل الطفل ثم حمله وهو يودع عمه قائلاً ( الولد ماينام إلا عند أمه ) فكان لسان الأب لاهجاً بالدعاء له والشكر حتى ابتعد الزوج
وحين اقترب من بيته أنزل الطفل عن كاهله ثم فتح الباب برفق وهو ينادي ( فلانه .. فلانه)
أقبلت الزوجة مسرعة إليه وهي تصيح ( نعم .. نعم )
أخرجها زوجها من هذا الفزع وهو يبتسم قائلاً ( لاتخافين .. الولد حسبة ولدي ولاراح يفارقنا ) .. لم تتمالك الزوجة نفسها وأجهشت بالبكاء وعلا نحيبها وأقبلت على زوجها تقبل رأسه وهي تدعو له وتشكره .. ومنذ تلك اللحظة أصبح طفلها بين عينيها فلا هي تغافل خروج زوجها ولاهي تخب الأرض إلى بيت أهلها . ومع زوجها كانت تفعل المستحيل من أجل راحته وابتسامته ورضاه وفي تلك الصبيحة المليئة بالعاطفة والمكاشفات أدرك الزوج الجمّال أنه قد فاته عمل هذا اليوم فخرج من بيته تاركاً زوجته تلتقط أنفاسها وتتأكد من حقيقة واقعها ..
كان الزوج يمشي الهوينى بلا اكتراث حتى مر برجلٍ يبني جدران طين قصيرة قريباً من ( جردة بريده ) وكان الهدف من هذه الجدران هو التملك للأرض التي يحوطها ففي ذلك الزمن كانت هذه الإحاطة كفيلة بتملك الأراضي قبل أن يكون غرس الإثل هو التملك فيما بعد
لم يتجاوزه الزوج حتى اتفقا على المناصفة بكل أرض يتملكها ، تكون مهمة صاحبنا الجمّال نقل الطين والحجر على جمله من مكان ليس بالبعيد ومهمة البنّاء هي إقامة الأساس والجدران وكل مايتطلبه البناء
وبعد أن يمتلكان الأرض يبيعانها في الحال ويتقاسمان الثمن والذي لم يكن باهضاً أو كثيراً ولكن على كل حال هو أفضل بكثير من عائد الجماله .. استمرا على هذه الحال بضع سنين تحسن فيها حال الزوج كثيرا فكان يرى الرزق والبركة في عيني هذا الطفل فاشترى جمل ثاني وثالث .. وزاد مع هذا تملك الأراضي فأصبح يبيع أرض ويبقي الأرض الأخرى .. حتى كبر الطفل واشتد ساعده وأصبح يساعد عمه في عمله الجديد المريح ... وبعد عقودٍ من الزمن وقريباً من عام ١٤١٠ هجري نبحث عن هذا الجمّال وأسرته لنكتشف أنه توفي من سنين بعد أن عاش عيشة الوجهاء وأصحاب المال والطفل لم يعد طفلاً بل شيخاً وقورا يمتلك العقار والدكاكين المؤجرة والتي درجت عليه من عمه الجمّال يشاركه في ذلك اخوته من والدته التي هي الأخرى توفيت قريباً من زوجها ..
فكان هذا الشيخ يطيل سجدته يدعو فيها لزوج أمه الذي عطف عليه وأخذ بأنامله نحو الرعاية والرزق
وفي مواسم الخير يخصه بصدقة أو أضحية أو كفالة أو إطعام ومع كل فجاج الخير يتذكر عمه الجمّال ولا ينساه ، انتهى
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق